فصل: بيان حقيقة الحسد وحكمه وأقسامه ومراتبه

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إحياء علوم الدين **


بيان فضيلة الحلم

اعلم أن الحلم أفضل من كظم الغيظ لأن كظم الغيظ عبارة عن التحلم أي تكلف الحلم ولا يحتاج إلى كظم الغيظ إلا من هاج غيظه ويحتاج فيه إلى مجاهدة شديدة ولكن إذا تعود ذلك مدة صار ذلك اعتياداً فلا يهيج الغيظ وإن هاج فلا يكون في كظمه تعب وهو الحلم الطبيعي وهو دلالة كمال العقل واستيلائه وانكسار قوة الغضب وخضوعها للعقل ولكن ابتداؤه التحلم وكظم الغيظ تكلفاً‏.‏

قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم ومن يتخير الخير يعطه ومن يتوق الشر يوقه وأشار بهذا إلى أن اكتساب الحلم طريقه التحلم أولاً وتكلفه كما أن اكتساب العلم طريقه التعلم‏.‏

وقال أبو هريرة‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ اطلبوا العلم واطلبوا مع العلم السكينة والحلم لينوا لمن تعلمون ولمن تتعلمون منه ولا تكونوا من جبابرة العلماء فيغلب جهلكم حلمكم وأشار بهذا إلى أن التكبر والتجبر هو الذي يهيج الغضب ويمنع من الحلم واللين‏.‏

وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم اللهم أغنني بالعلم وزيني بالحلم وأكرمني بالتقوى وجملني بالعافية وقال أبو هريرة ‏"‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ابتغوا الرفعة عند الله‏.‏

قالوا‏:‏ وما هي يا رسول الله قال ‏"‏ تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتحلم عمن جهل عليك وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ خمس من سنن المرسلين‏:‏ الحياء والحلم والحجامة والسواك والتعطر وقال علي كرم الله وجهه‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن الرجل المسلم ليدرك بالحلم درجة الصائم القائم وإنه ليكتب جباراً عنيداً ولا يملك إلا أهل بيته وقال أبو هريرة‏:‏ إن رجلاً قال يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني وأحسن إليهم ويسيئون إلي ويجهلون علي وأحلم عنهم قال ‏"‏ إن كان كما تقول فكأنما تسفهم المل ولا يزال معك من الله ظهير ما دمت على ذلك المل‏:‏ يعني به الرمل‏.‏

وقال رجل من المسلمين‏:‏ اللهم ليس عندي صدقة أتصدق بها فأيما رجل أصاب من عرضي شيئاً فهو عليه صدقة فأوحى الله تعالى إلى النبي صلى الله عليه وسلم إني قد غفرت له وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم ‏"‏ قالوا‏:‏ وما أبو ضمضم قال ‏"‏ رجل ممن كان قبلكم كان إذا أصبح يقول‏:‏ اللهم إني تصدقت اليوم بعرضي على من ظلمني‏.‏

وقيل في قوله تعالى ‏"‏ ربانيين ‏"‏ أي حلماء علماء‏.‏

وعن الحسن في قوله تعالى ‏"‏ وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً ‏"‏ قال حلماء إن جهل عليهم لم يجهلوا‏.‏

وقال عطاء بن أبي رباح ‏"‏ يمشون على الأرض هوناً ‏"‏ أي حلماء‏.‏

وقال ابن أبي حبيب في قوله عز وجل ‏"‏ وكهلا ‏"‏ قاله‏:‏ الكهل منتهى الحلم‏.‏

وقال مجاهد ‏"‏ وإذا مروا باللغو مروا كراما ‏"‏ أي إذا أوذوا صفحوا‏.‏

وروي أن ابن مسعود مر بلغو معرضاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أصبح ابن مسعود وأمسى كريماً ثم تلا إبراهيم بن ميسرة وهو الراوي قوله تعالى ‏"‏ وإذا مروا باللغو مروا كراما ‏"‏ وقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ اللهم لا يدركني ولا أدركه زمان لا يتبعون فيه العليم ولا يستحيون فيه من الحليم قلوبهم قلوب العجم وألسنتهم ألسنة العرب وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ليليني منكم ذوو الأحلام والنهي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ولا تختلفوا فتخلف قلوبكم وإياكم وهيشات الأسواق وروي أنه وفد على النبي صلى الله عليه وسلم الأشج فأناخ راحلته ثم عقلها وطرح عنه ثوبين كانا عليه وأخرج من العيبة ثوبين حسنين فلبسهما‏.‏

وذلك بعين رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى ما يصنع ثم أقبل يمشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه السلام ‏"‏ إن فيك يا أشج خلقين يحبهما الله ورسوله ‏"‏ قال‏:‏ ما هما بأبي أنت وأمي يا رسول الله قال ‏"‏ الحلم والأناة ‏"‏ فقال‏:‏ خلتان تخلقتهما أو خلقان جبلت عليهما فقال‏:‏ بل خلقان جبلك الله عليهما ‏"‏ فقال‏:‏ الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله ورسوله وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن الله يحب الحليم الحي الغني المتعفف أبا العيال التقي ويبغض الفاحش البذيء السائل الملحف الغبي وقال ابن عباس‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ثلاث من لم تكن فيه واحدة منهن فلا تعتدوا بشيء من عمله‏:‏ تقوى تحجزه عن معاصي الله عز وجل‏.‏

وحلم يكف به السفيه وخلق يعيش به في الناس وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إذا جمع الله الخلائق يوم القيامة نادى مناد‏:‏ أين أهل الفضل فيقوم ناس وهم يسير فينطلقون سراعاً إلى الجنة فتتلقاهم الملائكة فتقولون لهم إنا نراكم سراعاً إلى الجنة فيقولون نحن أهل الفضل فيقولون لهم ما كان فضلكم فيقولون كنا إذا ظلمنا صبرنا وإذا أسيء إلينا عفونا وإذا جهل علينا حلمنا‏.‏

فيقال لهم ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين‏.‏

الآثار‏:‏ قال عمر رضي الله عنه‏:‏ تعلموا العلم وتعلموا للعلم السكينة والحلم‏.‏

وقال علي رضي الله عنه‏:‏ ليس الخير أن يكثر مالك وولدك ولكن الخير أن يكثر علمك ويعظم حلمك وأن لا تباهي الناس بعبادة الله وإذا أحسنت حمدت الله تعالى وإذا أسأت استغفرت الله تعالى‏.‏

وقال الحسن‏:‏ اطلبوا العلم وزينوه بالوقار والحلم‏.‏

وقال أكثم بن صيفي‏:‏ دعامة العقل الحلم وجماع الأمر الصبر‏.‏

وقال أبو الدرداء‏:‏ أدركت الناس ورقا لا شوك فيه فأصبحوا شوكاً لا ورق فيه إن عرفتهم نقدوك وإن تركتهم لم يتركوك قالوا‏:‏ كيف نصنع قال‏:‏ تقرضهم عن عرضك ليوم فقرك‏.‏

وقال علي رضي الله عنه‏:‏ إن أول ما عوض الحليم عن حلمه جهله وصبره وشهوته ولا يبلغ ذلك إلا بقوة العلم وقال معاوية لعمرو بن الأهتم‏:‏ أي الرجال أشجع قال‏:‏ من رد جهله بحلمه‏.‏

قال‏:‏ أي الرجال أسخى قال‏:‏ من بذل دنياه لصلاح دينه‏.‏

وقال أنس بن مالك في قوله تعالى ‏"‏ فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ‏"‏ إلى قوله ‏"‏ عظيم ‏"‏ هو الرجل يشتمه أخوه فيقول‏:‏ إن كنت كاذباً فغفر الله لك وإن كنت صادقاً فغفر الله لي‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ شتمت فلاناً من أهل البصرة فحلم علي فاستعبدني بها زماناً‏.‏

وقال معاوية لعرابة بن أوس‏:‏ بم سدت قومك يا عرابة قال‏:‏ يا أمير المؤمنين كنت أحلم عن جاهلهم وأعطي سائلهم وأسعى في حوائجهم‏.‏

فمن فعل فعلي فهو مثلي ومن جاوزني فهو أفضل مني ومن قصر عني فأنا خير منه‏.‏

وسب رجل ابن عباس رضي الله عنهما فلما فرغ قال‏:‏ يا عكرمة هل للرجل حاجة فنقضيها فنكس الرجل رأسه واستحى‏.‏

وقال رجل لعمر بن عبد العزيز‏:‏ أشهد أنك من الفاسقين فقال‏:‏ ليس تقبل شهادتك‏.‏

وعن علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم أنه سبه رجل فرمى إليه بخميصة كانت عليه وأمر له بألف درهم فقال بعضهم‏:‏ جمع له خمس خصال محمودة‏:‏ الحلم وإسقاط الأذى وتخليص الرجل مما يبعد من الله عز وجل وحمله على الندم والتوبة ورجوعه إلى مدح بعد الذم اشترى جميع ذلك بشيء من الدنيا يسير وقال رجل لجعفر بن محمد إنه قد وقع بيني وبين قوم منازعة في أمر وإني أريد أن أتركه فأخشى أن يقال لي‏:‏ إن تركك له ذل فقال جعفر‏:‏ إنما الذليل الظالم‏.‏

وقال الخليل بن أحمد‏:‏ كان يقال من أساء فأحسن إليه فقد جعل له حاجز من قلبه يردعه عن مثل إساءته وقال الأحنف بن قيس‏:‏ لست بحليم ولكني أتحلم‏.‏

وقال وهب بن منبه‏:‏ من يرحم يرحم ومن يصمت يسلم ومن يجهل يغلب ومن يعجل يخطئ ومن يحرص على الشر لا يسلم ومن لا يدع المراء يشتم ومن لا يكره الشر يأثم ومن يكره الشر يعصم ومن يتبع وصية الله يحفظ ومن يحذر الله يأمن ومن يتول الله يمنع ومن لا يسأل الله يفتقر ومن يأمن مكر الله يخذل ومن يستعن بالله يظفر‏.‏

وقال رجل لمالك بن دينار‏:‏ بلغني أنك ذكرتني بسوء قال أنت إذن أكرم علي من نفسي إني إذا فعلت ذلك أهديت لك حسناتي‏.‏

وقال بعض العلماء الحلم أرفع من العقل لأن الله تعالى تسمى به‏.‏

وقال رجل لبعض الحكماء‏:‏ والله لأسبنك سباً يدخل معك في قبرك فقال‏:‏ معك يدخل لا معي‏.‏

ومر المسيح ابن مريم عليه الصلاة والسلام بقوم من اليهود فقالوا له شراً فقال لهم خيراً فقيل له‏:‏ إنهم يقولون شراً وأنت تقول خيراً فقال‏:‏ كل ينفق مما عنده‏.‏

وقال لقمان‏:‏ ثلاثة لا يعرفون إلا عند ثلاثة لا يعرف الحليم إلا عند الغضب ولا الشجاع إلا عند الحرب ولا الأخ إلا عند الحاجة إليه‏.‏

ودخل على بعض الحكماء صديق له فقدم إليه طعاماً فخرجت امرأة الحكيم - وكانت سيئة الخلق - فرفعت المائدة وأقبلت على شتم الحكيم فخرج الصديق مغضباً فتبعه الحكيم وقال له تذكر يوم كنا في منزلك نطعم فسقطت دجاجة على المائدة فأفسدت ما عليها فلم يغضب أحد منا قال‏:‏ نعم قال فاحسب أن هذه مثل تلك الدجاجة فسرى عن الرجل غضبه وانصرف وقال‏:‏ صدق الحكيم الحلم شفاء من كل ألم‏.‏

وضرب رجل قدم حكيم فأوجعه فلم يغضب فقيل له في ذلك فقال‏:‏ أقمته مقام حجر تعثرت به فذبحت الغضب‏.‏

وقال محمود الوراق‏:‏

سألزم نفسي الصفح عن كل مذنب ** وإن كثرت منه علي الجرائم

فأما الذي فوقي فأعرف قدره ** وأتبع فيه الحق والحق لازم

وأما الذي دوني فإن قال صنت عن ** إجابته عرضي وإن لام لائم

وأما الذي مثلي فإن زل أو هفا ** تفضلت إن الفضل بالحلم حاكم

بيان القدر الذي يجوز الانتصار والتشفي به من الكلام

اعلم أن كل ظلم صدر من شخص فلا يجوز مقابلته بمثله فلا تجوز مقابلة الغيبة بالغيبة ولا مقابلة التجسس بالتجسس ولا السب بالسب‏.‏

وكذلك سائر المعاصي‏.‏

وإنما القصاص والغرامة على قدر ما ورد الشرع به وقد فصلناه في الفقه‏.‏

وأما السبب فلا يقال بمثله إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن امرؤ عيرك بما فيك فلا تعيره بما فيه وقال ‏"‏ المستبان ما قالا فهو على البادئ ما لم يعتد المظلوم ‏"‏ وقال ‏"‏ المستبان شيطانان يتهاتران وشتم رجل أبا بكر الصديق رضي الله عنه وهو ساكت فلما ابتدأ ينتصر منه قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر‏:‏ إنك كنت ساكتاً لما شتمني فلما تكلمت قمت قال ‏"‏ لأن الملك كان يجيب عنك فلما تكلمت ذهب الملك وجاء الشيطان فلم أكن لأجلس في مجلس فيه الشيطان وقال قوم‏:‏ تجوز المقابلة بما لا كذب فيه وإنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مقابلة التعيير بمثله نهي تنزيه والأفضل تركه ولكنه لا يعصى به‏.‏

والذي يرخص فيه أن تقول‏:‏ من أنت وهل أنت إلا من بني فلان كما قال سعد لابن مسعود‏:‏ وهل أنت إلا من بني هذيل وقال ابن مسعود‏:‏ وهل أنت إلا من بني أمية ومثل قوله‏:‏ يا أحمق قال مطرف‏:‏ كل الناس أحمق فيما بينه وبين ربه إلا أن بعض الناس أقل حماقة من بعض‏.‏

وقال ابن عمر في حديث طويل‏:‏ حتى ترى الناس كلهم حمقى في ذات الله تعالى وكذلك قوله يا جاهل إذ ما من أحد إلا وفيه جهل فقد آذاه بما ليس بكذب‏.‏

وكذلك قوله يا سيئ الخلق يا صفيق الوجه يا ثلايا للإعراض وكان ذلك فيه‏.‏

وكذلك قوله‏:‏ لو كان فيك حياء لما تكلمت وما أحقرك في عيني بما فعلت وأخزاك الله وانتقم منك‏.‏

فأما النميمة والغيبة والكذب وسب الوالدين فحرام بالاتفاق لما روي أن كان بين خالد بن الوليد وسعد كلام فذكر رجل خالداً عند سعد فقال سعد‏:‏ مه إن ما بيننا لم يبلغ ديننا‏.‏

يعني أن يأثم بعضنا في بعض فلم يسمع السوء فكيف يجوز له أن يقوله والدليل على جواز ما ليس بكذب ولا حرام كالنسبة إلى الزنا والفحش والسب‏:‏ ما روت عائشة رضي الله عنها أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أرسلن إليه فاطمة فجاءت فقالت‏:‏ يا رسول الله أرسلني إليك أزواجك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة والنبي صلى الله عليه وسلم نائم فقال ‏"‏ يا بنية أتحبين ما أحب قالت‏:‏ نعم قال ‏"‏ فأحبي هذه ‏"‏ فرجعت إليهن فأخبرتهن بذلك فقلن‏:‏ ما أغنيت عنا شيئاً‏:‏ فأرسلن زينب بنت جحش قالت‏:‏ وهي التي كانت تساميني في الحب فجاءت فقالت‏:‏ بنت أبي بكر وبنت أبي بكر فما زالت تذكرني وأنا ساكتة أنتظر أن يأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجواب فأذن لي فسببتها حتى جف لساني فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ كلا إنها ابنة أبي بكر يعني أنك لا تقاومينها في الكلام قط وقولها‏:‏ سببتها ليس المراد به الفحش بل هو الجواب عن كلامها بالحق ومقابلتها بالصدق‏.‏

وقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ المستبان ما قالا فعلى البادئ منهما حتى يعتدي المظلوم فأثبت للمظلوم انتصار إلى أن يعتدي‏.‏

فهذا القدر هو الذي أباحه هؤلاء وهو رخصة في الإيذاء جزاء على إيذائه السابق‏.‏

ولا تبعد الرخصة في هذا القدر ولكن الأفضل تركه فإنه يجره إلى ما وراءه ولا يمكنه الاقتصار على قدر الحق فيه والسكوت عن أصل الجواب لعله أيسر من الشروع في الجواب والوقوف على حد الشرع فيه ولكن من الناس من لا يقدر على ضبط نفسه في فورة الغضب ولكن يعود سريعاً ومنهم من يكف نفسه في الابتداء ولكن يحقد على الدوام‏.‏

والناس في الغضب أربعة‏:‏ فبعضهم كالحلفاء سريع الوقود سريع الخمود وبعضهم كالغضا بطيء الوقود بطيء الخمود وبعضهم بطيء الوقود سريع الخمود وهو الأحمد ما لم ينته إلى فتور الحمية والغيرة وبعضهم سريع الوقود بطيء الخمود وهذا هو أشرهم‏.‏

وفي الخبر ‏"‏ المؤمن سريع الغضب سريع الرضى فهذه بتلك وقال الشافعي رحمه الله‏:‏ من استغضب فلم يغضب فهو حمار ومن استرضى فلم يرض فهو شيطان‏.‏

وقد قال أبو سعيد الخدري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ألا إن بني آدم خلقوا على طبقات شتى فمنهم بطيء الغضب سريع الفيء ومنهم سريع الغضب سريع الفيء فتلك بتلك ومنهم سريع الغضب بطيء الفيء ألا وإن خيرهم البطيء الغضب السريع الفيء وشرهم السريع الغضب البطيء الفيء ولما كان الغضب يهيج ويؤثر في كل إنسان وجب على السلطان أن لا يعاقب أحداً في حال غضبه لأنه ربما يتعدى الواجب ولأنه ربما يكون متغيظاً عليه فيكون متشفياً لغيظه ومريحاً نفسه من ألم الغيظ فيكون صاحبه حظ نفسه فينبغي أن يكون انتقامه وانتصاره لله تعالى لا لنفسه‏.‏

ورأى عمر رضي الله عنه سكران فأراد أن يأخذه ويعزره فشتمه السكران فرجع عمر فقيل له‏:‏ يا أمير المؤمنين لما شتمك تركته قال‏:‏ لأنه أغضبني ولو عزرته لكان ذلك لغضبي لنفسي ولم أحب أن أضرب مسلماً حمية لنفسي‏.‏

وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله لرجل أغضبه‏:‏ لولا أنك أغضبتني لعاقبتك‏.‏

اعلم أن الغضب إذا لزم كظمه لعجز عن التشفي في الحال رجع إلى الباطن واحتقن فيه فصار حقداً ومعنى الحقد أن يلزم قلبه استثقاله والبغضة له والنفار عنه وأن يدوم ذلك ويبقى وقد قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ المؤمن ليس بحقود فالحقد ثمرة الغضب‏.‏

والحقد يثمر ثمانية أمور ‏"‏ الأول ‏"‏ الحسد‏:‏ وهو أن يحملك الحقد على أن تتمنى زوال النعمة عنه فتغتم بنعمة إن أصابها وتسر بمصيبة إن نزلت به وهذا من فعل المنافقين‏.‏

وسيأتي ذمهإن شاء اللهتعالى‏.‏

‏"‏ الثاني ‏"‏ أن تزيد على إضمار الحسد في الباطن فتشمت بما أصابه من البلاء‏.‏

‏"‏ الثالث ‏"‏ أن تهجره وتصارمه وتنقطع عنه وإن طلبك وأقبل عليك‏.‏

‏"‏ الرابع ‏"‏ وهو دونه أن تعرض عنه استصغاراً له‏.‏

‏"‏ الخامس ‏"‏ أن تتكلم فيه بما لا يحل من كذب وغيبة وإفشاء سر وهتك ستر وغيره‏.‏

‏"‏ السادس ‏"‏ أن تحاكيه استهزاء به وسخرية منه‏.‏

‏"‏ السابع ‏"‏ إيذاؤه بالضرب وما يؤلم بدنه‏.‏

‏"‏ الثامن ‏"‏ أن تمنعه حقه من قضاء دين أو صلة رحم أو رد مظلمة‏.‏

وكل ذلك حرام‏.‏

وأقل درجات الحقد أن تحترز من الآفات الثمانية المذكورة ولا تخرج بسبب الحقد إلى ما تعصي الله به ولكن تستثقله في الباطن ولا تنهي قلبك عن بغضه حتى تمتنع عما كنت تطوع به من البشاشة والرفق والعناية والقيام بحاجاته والمجالسة معه على ذكر الله تعالى والمعاونة على المنفعة له أو بترك الدعاء له والثناء عليه أو التحريض على بره ومواساته‏.‏

فهذا كله مما ينقص درجتك ولما حلف أبو بكر رضي الله عنه أن لا ينفق على مسطح - وكان قريبه - لكونه تكلم في واقعة الإفك نزل قوله تعالى ‏"‏ ولا يأتل أولوا الفضل منكم ‏"‏ إلى قوله ‏"‏ ألا تحبون أن يغفر الله لكم ‏"‏ فقال أبو بكر‏:‏ نعم نحب ذلك وعاد إلى الإنفاق عليه‏.‏

والأولى أن يبقى على ما كان عليه فإن أمكنه أن يزيد في الإحسان مجاهدة للنفس وإرغاماً للشيطان فذلك مقام الصديقين وهو من فضائل أعمال المقربين‏.‏

فللمحقود ثلاثة أحوال عند القدرة ‏"‏ أحدها ‏"‏ أن يستوفي حقه الذي يستحقه من غير زيادة أو نقصان وهو العدل‏.‏

‏"‏ الثاني ‏"‏ أن يحسن إليه بالعفو والصلة وذلك هو الفضل‏.‏

‏"‏ الثالث ‏"‏ أن يظلمه بما لا يستحقه وذلك هو الجور وهو اختيار الأرذال والثاني‏:‏ هو اختيار الصديقين والأول‏:‏ هو منتهى درجات الصالحين‏.‏

ولنذكر الآن فضيلة العفو والإحسان‏.‏

فضيلة العفو والإحسان اعلم أن معنى العفو أن يستحق حقاً فيسقطه ويبرئ عنه من قصاص أو غرامة وهو غير الحلم وكظم الغيظ فلذلك أفردناه‏.‏

قال الله تعالى ‏"‏ خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ‏"‏ وقال الله تعالى ‏"‏ وأن تعفوا أقرب للتقوى ‏"‏ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ثلاث والذي نفسي بيده لو كنت حلافاً لحلفت عليهن‏:‏ ما نقص مال من صدقة فتصدقوا ولا عفا رجل عن مظلمة يبتغي بها وجه الله إلا زاده الله بها عزاً يوم القيامة ولا فتح رجل على نفسه باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ التواضع لا يزيد العبد إلا رفعة فتواضعوا يرفعكم الله والعفو لا يزيد العبد إلا عزاً فاعفوا يعزكم الله والصدقة لا تزيد المال إلا كثرة فتصدقوا يرحمكم الله وقال عائشة رضي الله عنها‏:‏ ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم منتصراً من مظلمة ظلمها قط ما لم ينتهك من محارم الله فإذا انتهك من محارم الله شيء كان أشدهم في ذلك غضباً وما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً وقال عقبة ‏"‏ لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فابتدرته فأخذت بيده أو بدرني فأخذ بيدي فقال ‏"‏ يا عقبة ألا أخبرك بأفضل أخلاق أهل الدنيا والآخرة‏:‏ تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ قال موسى عليه السلام يا رب أي عبادك أعز عليك قال الذي إذا قدر عفا وكذلك سئل أبو الدرداء عن أعز الناس قال الذي يعفو إذا قدر فاعفوا يعزكم الله وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو مظلمة فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يجلس وأراد أن يأخذ له بمظلمته فقال له صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن المظلومين هم المفلحون يوم القيامة فأبى أن يأخذها حين سمع الحديث‏:‏ وقالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من دعا على من ظلمه فقد انتصر ‏"‏ وعن أنس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إذا بعث الله الخلائق يوم القيامة نادى مناد من تحت العرش

ثلاثة أصوات‏:‏ يا معشر الموحدين إن الله عفا عنكم فليعف بعضكم عن بعض وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة طاف بالبيت وصلى ركعتين ثم أتى الكعبة فأخذ بعضادتي الباب فقال ‏"‏ ما تقولون وما تظنون فقالوا‏:‏ نقول أخ وابن عم حليم رحيم - قالوا ثلاثاً - فقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أقول كما قال يوسف ‏"‏ لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ‏"‏ قال فخرجوا كأنما نشروا من القبور فدخلوا في الإسلام‏.‏

وعن سهيل بن عمرو قال‏:‏ لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وضع يديه على باب الكعبة والناس حوله فقال ‏"‏ لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ‏"‏ ثم قال ‏"‏ يا معشر قريش ما تقولون وما تظنون ‏"‏ قال‏:‏ قلت يا رسول الله نقول خيراً ونظن خيراً أخ كريم وابن عم رحيم وقد قدرت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أقول كما قال أخي يوسف ‏"‏ لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وعن أنس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إذا وقف العباد نادى مناد ليقم من أجره على الله فليدخل الجنة قيل ومن ذا الذي له على الله أجر قال ‏"‏ العافون عن الناس فيقوم كذا وكذا ألفاً فيدخلونها بغير حساب وقال ابن مسعود قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لا ينبغي لوالي أمر أن يؤتي بحد إلا أقامه والله عفو يحب العفو ثم قرأ ‏"‏ وليعفوا أو ليصفحوا ‏"‏ الآية وقال جابر‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ثلاث من جاء بهن مع إيمان دخل من أي أبواب الجنة شاء وزوج من الحور العين حيث شاء‏:‏ من أدى ديناً خفياً وقرأ في دبر كل صلاة ‏"‏ قل هو الله أحد ‏"‏ عشر مرات وعفا عن قاتله ‏"‏ قال أبو بكر‏:‏ أو إحداهن يا رسول الله قال ‏"‏ أو إحداهن‏.‏

الآثار‏:‏ قال إبراهيم التيمي‏:‏ إن الرجل ليظلمني فأرحمه‏.‏

وهذا إحسان وراء العفو لأنه يشتغل قلبه بتعرضه لمعصية الله تعالى بالظلم وأنه يطالب يوم القيامة فلا يكون له جواب‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ إذا أراد الله أن يتحف عبداً قيض له من يظلمه‏.‏

ودخل رجل على عمر بن عبد العزيز رحمه الله فجعل يشكو إليه رجلاً ظلمه ويقع فيه فقال له عمر‏:‏ إنك إن تلقى الله ومظلمتك كما هي خير لك من أن تلقاه وقد اقتصصتها‏.‏

وقال يزيد بن ميسرة‏:‏ إن ظللت تدعو على من ظلمك فإن الله تعالى يقول إن آخر يدعو عليك بأنك ظلمته فإن شئت استجبنا لك وأجبنا عليك وإن شئت أخرتكما إلى يوم القيامة فيسعكما عفوي وقال مسلم بن يسار لرجل دعا على ظالمه‏:‏ كل الظالم إلى ظلمه فإنه أسرع إليه من دعائك عليه غلا أن يتداركه بعمل وقمن أن لا يفعل‏.‏

وعن ابن عمر عن أبي بكر أنه قال‏:‏ بلغنا أن الله تعالى يأمر منادياً يوم القيامة فينادي من كان له عند الله شيء فليقم فيقوم أهل العفو فيكافئهم الله بما كان من عفوهم عن الناس‏.‏

وعن هشام بن محمد قال أتى النعمان بن المنذر برجلين قد أذنب أحدهما ذنباً عظيماً فعفا عنه والآخر أذنب ذنباً خفيفاً فعاقبه وقال‏:‏ تعفو الملوك عن العظيم من الذنوب بفضلها ولقد تعاقب في اليسير وليس ذاك لجهلها إلا ليعرف حلمها ويخاف شدة دخلها وعن مبارك بن فضالة قال‏:‏ وفد سوار بن عبد الله في وفد من أهل البصرة إلى أبي جعفر قال‏:‏ فكنت عنده إذا أتى برجل فأمر بقتله فقلت يقتل رجل من المسلمين وأنا حاضر فقلت يا أمير المؤمنين ألا أحدثك حديثاً سمعته من الحسن قال‏:‏ وما هو قلت سمعته يقول‏:‏ إذا كان يوم القيامة جمع الله عز وجل الناس في صعيد واحد حيث يسمعهم الداعي وينفذهم البصر فيقوم مناد فينادي من له عند الله يد فليقم فلا يقوم إلا من عفا فقال‏:‏ والله لقد سمعته من الحسن فقلت والله لسمعته منه فقال‏:‏ خلينا عنه‏.‏

وقال معاوية‏:‏ عليكم بالحلم والاحتمال حتى تمكنكم الفرصة فإذا أمكنتكم فعليكم بالصفح والإفضال‏.‏

وروي أن راهباً دخل على هشام بن عبد الملك فقال للراهب‏:‏ أرأيت ذا القرنين أكان نبياً فقال‏.‏

لا ولكنه إنما أعطى ما أعطى بأربع خصال كن فيه‏:‏ كان إذا قدر عفا وإذا وعد وفى وإذا حدث صدق ولا يجمع شغل اليوم لغد‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ ليس الحليم من ظلم فحلم‏.‏

حتى إذا قدر انتقم ولكن الحليم من ظلم فحلم حتى إذا قدر عفا‏.‏

وقال زياد‏:‏ القدرة تذهب الحفيظة يعني الحقد والغضب وأتى هشام برجل بلغه عنه أمر فلما أقيم بين يديه جعل يتكلم بحجته فقال له هشام‏:‏ وتتكلم أيضاً فقال الرجل‏:‏ يا أمير المؤمنين قال الله عز وجل ‏"‏ يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها ‏"‏ أفنجادل الله تعالى ولا نتكلم بين يديك كلاماً قال هشام‏:‏ بلى ويحك تكلم‏.‏

وروي أن سارقاً دخل خباء عمار بن ياسر بصفين فقيل له اقطعه فإنه من أعدائنا فقال بل أستر عليه لعل الله يستر علي يوم القيامة‏.‏

وجلس ابن مسعود في السوق يبتاع طعاماً فابتاع ثم طلب الدراهم وكانت في عمامته فوجدها قد حلت فقال لقد جلست وإنها لمعي فجعلوا يدعون على من أخذها ويقولون‏:‏ اللهم اقطع يد السارق الذي أخذها اللهم افعل به كذا فقال عبد الله‏:‏ اللهم إن كان حمله على أخذها فبارك له فيها وإن كان حملته جراءة على الذنب فاجعله آخر ذنوبه‏.‏

وقال الفضيل‏:‏ ما رأيت أزهد من رجل من أهل خراسان جلس إلي في المسجد الحرام ثم قام ليطوف فسرقت دنانير كانت معه فجعل يبكي فقلت أعلى الدنانير تبكي فقال‏:‏ لا‏.‏

ولكن مثلتني وإياه بين يدي الله عز وجل فأشرف عقلي على إدحاض حجته فبكائي رحمة له وقال مالك بن دينار‏:‏ أتينا منزل الحكم بن أيوب ليلاً وهو على البصر أمير‏.‏

وجاء الحسن وهو خائف فدخلنا معه عليه فما كنا مع الحسن إلا بمنزله الفراريج فذكر الحسن قصة يوسف عليه السلام وما صنع به إخوته من بيعهم إياه وطرحهم له في الجب فقال‏:‏ باعوا أخاهم وأحزنوا أباهم وذكر ما لقي من كيد النساء ومن الحبس ثم قال‏:‏ أيها الأمير ماذا صنع الله به أداله منهم ورفع ذكره وأعلى كلمته وجعله على خزائن الأرض فما صنع حين أكمل له أمره وجمع أهله ‏"‏ قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ‏"‏ يعرض للحكم بالعفو عن أصحابه‏.‏

قال الحكم فأنا أقول لا تثريب عليكم اليوم ولو لم أجد إلا ثوبي هذا لواريتكم تحته‏.‏

وكتب ابن المقفع إلى صديق له يسأله العفو عن بعض إخوانه‏:‏ فلان هارب من زلته إلى عفوك لائذ منك بك‏.‏

واعلم أنه لن يزداد الذنب عظماً إلى ازدادالعفو فضلاً‏.‏

وأتى عبد الملك بن مروان بأسارى ابن الأشعث فقال لرجاء بن حيوة‏.‏

ما ترى قال إن الله تعالى قد أعطاك ما تحب من الظفر فأعط الله ما يحب من العفو فعفا عنهم‏.‏

وروي أن زياداً أخذ رجلاً من الخوارج فأفلت منه فأخذ أخاً له فقال له‏:‏ إن جئت بأخيك وإلا ضربت عنقك فقال‏:‏ أرأيت إن جئتك بكتاب من أمير المؤمنين تخلي سبيلي قال نعم قال فأنا آتيك بكتاب من العزيز الحكيم وأقيم عليه شاهدين إبراهيم وموسى ثم تلا ‏"‏ أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى أن لا تزر وازرة وزر أخرى ‏"‏ فقال زياد خلوا سبيله هذا رجل قد لقن حجته وقيل مكتوب في الإنجيل‏.‏

من استغفر لمن ظلمه فقد هزم الشيطان‏.‏

فضيلة الرفق اعلم أن الرفق محمود ويضاده العنف والحدة‏.‏

والعنف نتيجة الغضب والفظاظة‏.‏

والرفق واللين نتيجة حسن الخلق والسلامة وقد يكون سبب الحد الغضب‏.‏

وقد يكون سببها شدة الحرص واستيلاءه بحيث يدهش عن التفكر ويمنع من التثبت فالرفق في الأمور ثمرة لا يثمرها إلا حسن الخلق ولا يحسن الخلق إلا بضبط قوة الغضب وقوة الشهوة وحفظهما على حد الاعتدال‏.‏

ولأجل هذا أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ارفق وبالغ فيه فقال ‏"‏ يا عائشة إنه من أعطى حظه من الرفق فقد أعطى حظه من خير الدنيا والآخرة ومن حرم حظه من الرفق فقد حرم حظه من الدنيا والآخرة وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إذا أحب الله أهل بيت أدخل عليهم الرفق وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن الله ليعطي على الرفق ما لا يعطي على الخرق وإذا أحب الله عبداً أعطاه الرفق وما من أهل بيت يحرمون الرفق إلا حرموا محبة الله تعالى وقالت عائشة رضي الله عنها قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ يا عائشة ارفقي فإن الله إذا أراد بأهل بيت كرامة دلهم على باب الرفق وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من يحرم الرفق يحرم الخير كله وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أيما وال ولى فرفق ولان رفق الله تعالى به يوم القيامة وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ تدرون من يحرم على النار يوم القيامة كل عين لين سهل قريب وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ الرفق يمن والخرق شؤم وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ التأني من الله والعجلة من الشيطان وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه رجل فقال يا رسول الله ‏"‏ إن الله قد بارك لجميع المسلمين فيك فاخصصني منك بخير فقال ‏"‏ الحمد لله ‏"‏ مرتين أو ثلاثاً ثم أقبل عليه فقال ‏"‏ هل أنت مستوص ‏"‏ مرتين أو ثلاثاً قال‏:‏ نعم قال ‏"‏ إن أدرت أمراً فتدبر عاقبته فإن كان رشداً فأمضه وإن كان سوى ذلك فانته وعن عائشة رضي الله عنها أنها كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر على بعير صعب فجعلت تصرفه يميناً وشمالاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ يا عائشة عليك بالرفق فإنه لا يدخل في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه‏.‏

الآثار‏:‏ بلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن جماعة من رعيته اشتكوا من عماله فأمرهم أن يوافوه فلما أتوه قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال‏:‏ أيها الناس أيتها الرعية إن لنا عليكم حقاً النصيحة بالغيب والمعاونة على الخير أيتها الرعاة إن للرعية عليكم حقاً فاعلموا أن لا شيء أحب إلى الله ولا أعز من حلم إمام ورفقه ليس جهل أبغض إلى الله ولا أغم من جهل إمام وخرجه واعلموا أنه من يأخذ بالعافية فيمن بين ظهريه يرزق العافية ممن هو دونه‏.‏

وقال وهب بن منبه‏:‏ الرفق ثنى الحلم‏.‏

وفي الخبر موقوفاً ومرفوعاً ‏"‏ العلم خليل المؤمن والحلم وزيره والعقل دليله والعمل قيمه والرفق والده واللين أخوه والصبر أمير جنوده وقال بعضهم‏:‏ ما أحسن الإيمان يزينه العلم وما أحسن العلم يزينه العمل وما أحسن العمل يزينه الرفق وما أضيف إلى شيء مثل حلم إلى عمل‏.‏

وقال عمرو بن العاص لابنه عبد الله‏:‏ ما الرفق قال‏:‏ تكون ذا أناة فتلاين الولاة‏.‏

قال فما الخرق قال‏:‏ معاداة إمامك ومناوأة من يقدر على ضررك‏.‏

وقال سفيان لأصحابه‏:‏ تدرون ما الرفق قالوا‏:‏ قل يا أبا محمد قال‏:‏ أن تضع الأمور من مواضعها‏:‏ الشدة في مواضعها واللين في موضعه والسيف في موضعه والسوط في موضعه وهذه إشارة إلى أنه لا بد من مزج الغلظة باللين والفظاظة بالرفق كما قيل‏.‏

ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى فالمحمود وسط بين العنف واللين كما في سائر الأخلاق ولكن لما كانت الطباع إلى العنف والحدة أميل كانت الحاجة إلى ترغيبهم في جانب الرفق أكثر فلذلك كثر ثناء الشرع على جانب الرفق دون العنف وإن كان العنف في محله حسناً كما أن الرفق في محله حسن فإذا كان الواجب هو العنف فقد وافق الحق الهوى وهو ألذ من الزبد بالشهد وهكذا‏.‏

وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله‏:‏ روي أن عمرو بن العاص كتب إلى معاوية يعاتبه في التأني فكتب إليه معاوية‏.‏

أما بعد فإن الفهم في الخير زبادة الشر وإن الرشيد من رشد عن العجلة وإن الجانب من خاب عن الأناة وإن المتثبت مصيب أو كاد أن يكون مصيباً وإن العجل مخطئ أو كاد أن يكون مخطئاً وأن من لا ينفعه الرفق يضره الخرق ومن لا ينفعه التجارب لا يدرك المعالي‏.‏

وعن أبي عون الأنصاري قال‏:‏ ما تكلم الناس بكلمة صعبة إلا وإلى جانبها كلمة ألين منها تجري مجراها‏.‏

وقال أبو حمزة الكوفي‏:‏ لا تتخذ من الخدم إلا ما لا بد منه فإن مع كل إنسان شيطاناً‏.‏

واعلم أنهم لا يعطونك بالشدة شيئاً إلا أعطوك باللين ما هو أفضل منه‏.‏

وقال الحسن‏:‏ المؤمن وقاف متأن وليس كحاطب ليل‏.‏

فهذا ثناء أهل العلم على الرفق وذلك لأنه محمود ومفيد في أكثر الأحوال وأغلب الأمور والحاجة إلى العنف قد تقع ولكن على الندور وإنما لكامل من يميز مواقع الرفق عن مواقع العنف فيطعى كل أمر حقه فإن كان قاصر البصيرة أو أشكل عليه حكم واقعة من الوقائع فليكن ميله إلى الرفق فإن النجح معه في الأكثر‏.‏

ومعالجته وغاية الواجب في إزالته

بيان ذم الحسد

اعلم أن الحسد أيضاً من نتائج الحقد والحقد من نتائج الغضب فهو فرع فرعه والغضب أصل أصله ثم إن للحسد من الفروع الذميمة ما لا يكاد يحصى‏.‏

وقد ورد في ذم الحسد خاصة أخبار كثيرة‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب وقال صلى الله عليه وسلم في النهي عن الحسد وأسبابه وثمراته ‏"‏ لا تحاسدوا ولا تقاطعوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً وقال أنس‏:‏ كنا يوماً جلوساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ‏"‏ يطلع عليكم الآن من هذا الفج رجل من أهل الجنة ‏"‏ قال‏:‏ فطلع رجل من الأنصار ينفض لحيته من وضوئه قد علق نعليه في يده الشمال فسلم فلما كان الغد قال صلى الله عليه وسلم مثل ذلك فطلع ذلك الرجل وقاله في اليوم الثالث فطلع ذلك الرجل فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص فقال له‏.‏

إني لاحيت أبي فأقسمت أن لا أدخل عليه ثلاثاً فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي الثلاث فعلت فقال ‏"‏ نعم فبات عنده ثلاث ليال فلم يره يقوم من الليل شيئاً غير أنه إذا انقلب على فراشه ذكر الله تعالى ولم يقم لصلاة الفجر قال‏:‏ غير أني ما سمعته يقول إلا خيراً فلما مضت الثلاث وكدت أن أحتقر عمله قلت‏:‏ يا عبد الله لم يكن بيني وبين والدي غضب ولا هجرة ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا وكذا فأردت أن أعرف عملك فلم أرك تعمل عملاً كثيراً فما الذي بلغ بك ذلك فقال‏:‏ ما هو إلا ما رأيت فلما وليت دعاني فقال‏:‏ ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد على أحد من المسلمين في نفسي غشاً ولا حسداً على خير أعطاه الله إياه قال عبد الله‏:‏ فقلت له هي التي بلغت بك وهي التي لا نطيق‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ثلاث لا ينجو منهن أحد‏:‏ الظن والطيرة والحسد وسأحدثكم بالمخرج من ذلك‏:‏ إذا ظننت فلا تحقق وإذا تطيرت فامض وإذا حسدت فلا تبغ وفي رواية ‏"‏ ثلاثة لا ينجو منهن أحد وقل من ينجو منهن ‏"‏ فأثبت في هذه الرواية إمكان النجاة‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء والبغضة هي الحالقة لا أقول حالقة الشعر ولكن حالقة الدين والذي نفس محمد بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولن تؤمنوا حتى تحابوا ألا أنبئكم بما يثب ذلك لكم أفشوا السلام بينكم وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ كاد الفقر أن يكون كفراً وكاد الحسد أن يغلب القدر وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إنه سيصيب أمتي داء الأمم ‏"‏ قالوا‏.‏

وما داء الأمم قال ‏"‏ الأشر والبطر والتكاثر والتنافس في الدنيا والتباعد والتحاسد حتى يكون البغي ثم الهرج وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لا تظهر الشماتة لأخيك فيعافيه الله ويبتليك وروي أن موسى عليه السلام لما تعجل إلى ربه تعالى رأى في ظل العرش رجلاً فغبطه بمكانه فقال‏:‏ إن هذا لكريم على ربه فسأل ربه تعالى أن يخبره باسمه فلم يخبره وقال أحدثك من عمله بثلاث‏:‏ كان لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله وكان لا يعق والديه ولا يمشي بالنميمة‏.‏

وقال زكريا عليه السلام‏:‏ قال الله تعالى‏:‏ الحاسد عدو لنعمتي متسخط لقضائي غير راض بقسمتي التي قسمت بين عبادي‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أخوف ما أخاف على أمتي أن يكثر فيهم المال فيتحاسدون ويقتتلون وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ استعينوا على قضاء الحوائج بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن لنعم الله أعداء ‏"‏ فقيل ومن هم فقال ‏"‏ الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ستة يدخلون النار قبل الحساب بسنة ‏"‏ قيل يا رسول الله من هم قال ‏"‏ الأمراء بالجور والعرب بالعصبية والدهاقين بالتكبر والتجار بالخيانة وأهل الرستاق بالجهالة والعلماء بالحسد‏.‏

الآثار‏:‏ قال بعض السلف‏:‏ أول خطيئة هي الحسد حسد إبليس آدم عليه السلام على رتبته فأبى أن يسجد له فحمله على الحسد والمعصية‏.‏

وحكي أن عون بن عبد الله دخل على الفضل بن المهلب وكان يومئذ على واسط فقال‏:‏ إني أريد أن أعظك بشيء فقال‏:‏ وما هو قال‏:‏ إياك والكبر فإنه أول ذنب عصي الله به ثم قرأ ‏"‏ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس ‏"‏ الآية وإياك والحرص فإنه أخرج آدم من الجنة أمكنه الله سبحانه من جنة عرضها السموات والأرض يأكل منها إلا شجرة واحدة نهاه عنها فأكل منها فأخرجه الله تعالى منها ثم قرأ ‏"‏ اهبطوا منها ‏"‏ إلى آخر الآية وإياك والحسد فإنما قتل ابن آدم أخاه حين حسده ثم قرأ ‏"‏ واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق ‏"‏ الآيات وإذا ذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمسك وإذا ذكر القدر فاسكت وإذا ذكرت النجوم فاسكت‏.‏

وقال بكر بن عبد الله‏:‏ كان رجل يغشى بعض الملوك فيقوم بحذاء الملك فيقول‏:‏ أحسن إلى المحسن بإحسانه فإن المسيء سيكفيكه إساءته فحسده رجل على ذلك المقام والكلام فسعى به إلى الملك فقال‏:‏ إن هذا الذي يقوم بحذائك ويقول ما يقول زعم أن الملك أبخر فقال له الملك‏:‏ وكيف يصح ذلك عندي قال‏:‏ تدعوه إليك فإنه إذا دنا منك وضع يده على أنفه لئلا يشم رائحة البخر فقال له‏:‏ انصرف حتى أنظر فخرج من عند الملك فدعا الرجل إلى منزله فأطعمه طعاماً فيه ثوم فخرج الرجل من عنده وقام بحذاء الملك على عادت فقال‏:‏ أحسن إلى المحسن بإحسانه فإن المسيء سيكفيكه إساءته فقال له الملك‏:‏ أدن مني فدنا منه فوضع يده على فيه مخافة أن يشم الملك منه رائحة الثوم فقال الملك في نفسه‏:‏ ما أرى فلا إلا قد صدق قال‏:‏ وكان الملك لا يكتب بخطه إلا بجائزة أو صلة

فكتب له كتاباً بخطه إلى عامل من عماله‏:‏ إذا أتاك حامل كتابي فاذبحه واسلخه واحش جلده تبناً وابعث به إلي فأخذ الكتاب وخرج فلقيه الرجل الذي سعى به فقال‏:‏ ما هذا الكتاب قال خط الملك لي بصلة فقال‏:‏ هبه لي‏!‏ فقال‏:‏ هو لك فأخذه ومضى به إلى العامل‏:‏ فقال العامل‏:‏ في كتابك أن أذبحك وأسلخك قال‏:‏ إن الكتاب ليس هو لي ف في أمري حتى تراجع الملك فقال‏:‏ ليس لكتاب الملك مراجعة فذبحه وسلخه وحشا جلده تبناً وبعث به ثم عاد الرجل إلى الملك كعادته وقال مثل قوله فعجب الملك وقال‏:‏ ما فعل الكتاب فقال‏:‏ لقيني فلان فاستوهبه مني فوهبته له قال له الملك‏:‏ إنه ذكر لي أنك تزعم أني أبخر قال‏:‏ ما قلت ذلك قال‏:‏ فلم وضعت يدك على فيك قال‏:‏ لأنه أطعمني طعاماً فيه ثوم فكرهت أن تشمه قال‏:‏ صدقت ارجع إلى مكانك فقد كفى المسيء إساءته‏.‏

وقال ابن سيرين رحمه الله‏:‏ ما حسدت أحداً على شيء من أمر الدنيا لأنه إن كان من أهل الجنة فكيف أحسده على الدنيا وهي حفيرة في الجنة وإن كان من أهل النار فكيف أحسده على أمر الدنيا وهو يصير إلى النار وقال رجل للحسن‏:‏ هل يحسد المؤمن قال‏:‏ ما أنساك بني يعقوب نعم ولكن غمه في صدرك فإنه لا يضرك ما لم تعد به يداً ولا لساناً‏.‏

وقال أبو الدرداء‏:‏ ما أكثر عبد ذكر الموت إلا قل فرحه وقل حسده‏!‏ وقال معاوية‏:‏ كل الناس أقدر على رضاه إلا حاسد نعمة فإنه لا يرضيه إلا زوالها كل العداوات قد ترجى إماتتها إلا عداوة من عاداك من حسد وقال بعض الحكماء‏:‏ الحسد جرح لا يبرأ أو حسب الحسود ما يلقى‏.‏

وقال أعرابي‏:‏ ما رأيت

ظالماً أشبه بمظلوم من حاسد إنه يرى النعمة عليك نقمة عليه‏.‏

وقال الحسن‏:‏ يا ابن آدم لم تحسد أخاك فإن كان الذي أعطاه لكرامته عليه فلم تحسد من أكرمه الله وإن كان غير ذلك فلم تحسد من مصيره إلى النار وقال بعضهم‏:‏ الحاسد لا ينال من المجالس إلا مذمة وذلاً ولا ينال من الملائكة إلا لعنة وبغضاً ولا ينال من الخلق إلا جزعاً وغماً ولا ينال عند النزع إلا شدة وهولاً ولا ينال عند الموقف إلا فضيحة ونكالاً‏.‏

بيان حقيقة الحسد وحكمه وأقسامه ومراتبه

اعلم أنه لا حسد إلا على نعمة فإذا أنعم الله على أخيك بنعمة فلك فيها حالتان‏:‏ إحداهما‏:‏ أن تكره تلك النعمة وتحب زوالها وهذه الحالة تسمى حسداً‏.‏

فالحسد حده كراهة النعمة وحب زوالها عن المنعم عليه‏.‏

الحالة الثانية‏:‏ أن لا تحب زوالها ولا تكره وجودها ودوامها ولكن تشتهي لنفسك مثلها‏.‏

وهذه تسمى غبطة وقد تختص باسم المنافسة‏.‏

وقد تسمى المنافسة حسداً والحسد منافسة ويوضع أحد اللفظين موضع الآخر ولا حجر في الأسامي بعد فهم المعاني‏:‏ وقد قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن المؤمن يغبط والمنافق يحسد‏.‏

فأما الأول فهو حرام بكل حال إلا نعمة أصابها فاجر أو كافر وهو يستعين بها على تهييج الفتنة وإفساد ذات البين وإيذاء الحق فلا يضرك كراهتك لها ومحبتك لزوالها فإنك لا تحب زوالها من حيث هي نعمة بل من حيث هي آلة الفساد ولو أمنت فساده لم يغمك بنعمته ويدل على تحريم الحسد الأخبار التي نقلناها وأن هذه الكراهة تسخط لقضاء الله في تفضيل بعض عباده على بعض وذلك لا عذر فيه ولا رخصة وأي معصية تزيد على كراهتك لراحة مسلم من غير أن يكون لك منه مضرة وإلى هذا أشار القرآن بقوله ‏"‏ إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها ‏"‏ وهذا الفرح شماتة والحسد والشماتة يتلازمان‏.‏

وقال تعالى ‏"‏ ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم ‏"‏ فأخبر تعالى أن حبهم زوال نعمة الإيمان حسد‏.‏

وقال عز وجل ‏"‏ ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء ‏"‏ وذكر الله تعالى حسد إخوة يوسف عليه السلام وعبر عما في قلوبهم بقوله تعالى ‏"‏ إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين‏.‏

اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً يخل لكم وجه أبيكم ‏"‏ فلما كرهوا حب أبيهم له وساءهم ذلك وأحبوا زواله عنه غيبوه عنه وقال تعالى ‏"‏ ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ‏"‏ أي لا تضيق صدورهم به ولا يغتمون فأثنى عليهم بعدم الحسد‏.‏

وقال تعالى في معرض الإنكار ‏"‏ أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ‏"‏ وقال تعالى ‏"‏ كان الناس أمة واحدة ‏"‏ إلى قوله ‏"‏ إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً

بينهم ‏"‏ قيل في التفسير‏:‏ حسداً‏.‏

وقال تعالى ‏"‏ وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم ‏"‏ فأنزل الله العلم ليجمعهم ويؤلف بينهم على طاعته وأمرهم أن يتألفوا بالعلم فتحاسدوا واختلفوا إذ أراد كل واحد منهم أن ينفرد بالرياسة وقبول القول فرد بعضهم على بعض‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ كانت اليهود قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم إذا قاتلوا قوماً قالوا نسألك بالنبي الذي وعدتنا أن ترسله وبالكتاب الذي تنزله إلا ما نصرتنا‏.‏

فكانوا ينصرون‏.‏

فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم من ولد إسماعيل عليه السلام عرفوه وكفروا به بعد معرفتهم إياه فقال تعالى ‏"‏ وكانوا من يقبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ‏"‏ إلى قوله ‏"‏ أن يكفروا بما أنزل الله بغياً ‏"‏ أي حسداً‏.‏

وقالت صفية بنت حي للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ جاء أبي وعمي من عندك يوماً فقال أبي لعمي‏:‏ ما تقول فيه قال‏:‏ أقول أنه النبي الذي بشر به موسى‏.‏

قال‏:‏ فما ترى قال‏:‏ أرى معاداته أيام الحياة فهذا حكم الحسد في التحريم‏.‏

وأما المنافسة‏:‏ فليست بحرام بل هي إما واجبة وإما مندوبة وإما مباحة‏.‏

وقد يستعمل لفظ الحسد بدل المنافسة والمنافسة بدل الحسد قال قثم بن العباس‏:‏ لما أراد هو والفضل أن يأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فيسألاه أن يؤمرهما على الصدقة - قالا لعلي حين قال لهما‏:‏ لا تذهبا إليه فإنه لا يؤمر كما عليها - فقالا له‏:‏ ما هذا منك إلا نفاسة والله لقد زوجك ابنته فما نفسنا ذلك عليك أي هذا منك حسد وما حسدناك على تزويجه إياك فاطمة‏.‏

والمنافسة في اللغة مشتقة من النفاسة والذي يدل على إباحة المنافسة قوله تعالى ‏"‏ وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ‏"‏ وقال تعالى ‏"‏ سابقوا إلى مغفرة من ربكم ‏"‏ وإنما المسابقة عند خوف الفوت وهو كالعبدين يتسابقان إلى خدمة مولاهما إذ يجزع كل واحد أن يسبقه صاحبه فيحظى عند مولاه بمنزلة لا يحظى هو بها فكيف وقد صرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال ‏"‏ لا حسد إلا في اثنتين‏:‏ رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق ورجل آتاه الله تعالى علماً فهو يعمل به ويعلمه الناس ثم فسر ذلك في حديث أبي كبشة الأتماري فقال ‏"‏ مثل هذه الأمة مثل أربعة‏:‏ رجل آتاه الله مالاً وعلماً فهو يعمل بعلمه في ماله ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً فيقول رب لو أن لي مالاً مثل مال فلان لكنت أعمل فيه بمثل عمله فهما في الأجر سواء - وهذا منه حب لأن يكون له مثل ماله فيعمل ما يعمل من غير حب زوال النعمة عنه قال - ورجل آتاه الله مالاً ولا لم يؤته علماً فهو ينفقه في معاصي الله ورجل لم يؤته علماً ولم يؤته مالاً فيقول لو أن لي مثل مال فلان لكنت أنفقته في مثل ما أنفقه فيه من العاصي فهما في الوزر سواء فذمه رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة تمنيه للمعصية لا من جهة حبه أن يكون له من النعمة مثل ما له‏.‏

فإذاً لا حرج على من يغبط غيره في نعمة ويشتهي لنفسه مثلها مهما لم يحب زوالها عنه ولم يكره دوامها له‏.‏

نعم إن كانت تلك النعمة نعمة دينية واجبة كالإيمان والصلاة والزكاة فهذه المنافسة واجبة وهو أن يحب أن يكون مثله لأنه إذا لم يكن يحب ذلك فيكون راضياً بالمعصية وذلك حرام وإن كانت النعمة من الفضائل كإنفاق الأموال في المكارم والصدقات فالمنافسة فيها مندوب إليها وإن كانت نعمة يتنعم بها على وجه مباح فالمنافسة فيها مباحة وكل ذلك يرجع إلى إرادة مساواته واللحوق به في النعمة وليس فيها كراهة النعمة وكان تحت هذه النعمة أمران أحدهما‏:‏ راحة المنعم عليه والآخر‏:‏ ظهور نقصان غيره وتخلفه عنه وهو يكره أحد الوجهين وهو تخلف نفسه ويحب مساواته له‏.‏

ولا حرج على من يكره تخلف نفسه ونقصانها في المباحات نعم ذلك ينقص من الفضائل ويناقض الزهد والتوكل والرضا ويحجب عن المقامات الرفيعة ولكنه لا يوجب العصيان‏.‏

وههنا دقيقة غامضة‏:‏ وهو أنه إذا أيس من أن ينال مثل تلك النعمة وهو يكره تخلفه ونقصانه فلا محالة يحب وزال النقصان وإنما يزول نقصانه إما بأن ينال مثل ذلك أو بأن تزول نعمة المحسود فإذا انسد أحد الطريقين فيكاد القلب لا ينفك عن شهوة الطريق الآخر حتى إذا زالت النعمة عن المحسود كان ذلك أشفى عنده من دوامها إذ بزوالها يزول تخلفه وتقدم غيره وهذا يكاد لا ينفك القلب عنه فإن كان بحيث لو ألقى الأمر إليه ورد إلى اختياره لسعى في إزالة النعمة عنه فهو حسود حسداًمذموماً‏.‏

وإن كان تدعه التقوى عن إزالة ذلك فيعفى عما يجده في طبعه من الارتياح إلى زوال النعمة عن محسوده مهما كان كارهاً لذلك من نفسه بعقله ودينه ولعله المعنى بقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ثلاث لا ينفك المؤمن عنهن‏:‏ الحسد والظن والطيرة ثم قال وله منهن مخرج‏:‏ ‏"‏ إذا حسدت فلا تبغ ‏"‏ أي إن وجدت في قلبك شيئاً فلا تعمل به‏.‏

وبعيد أن يكون الإنسان مريداً للحاق بأخيه في النعمة فيعجز عنها ثم ينفك عن ميل إلى زوال النعمة إذ يجد لا محالة ترجيحاً له على دوامها‏.‏

فهذا الحد من المنافسة يزاحم الحسد الحرام فينبغي أن يحتاط فيه فإنه موضع الخطر وما من إنسان إلا وهو يرى فوق نفسه جماعة من معارفه وأقرانه يحب مساواتهم ويكاد ينجر ذلك إلى الحسد المحظور إن لم يكن قوي الإيمان رزين التقوى‏.‏

ومهما كان محركه خوف التفاوت وظهور نقصانه عن غيره جره ذلك إلى الحسد المذموم وإلى ميل الطبع إلى زوال النعمة عن أخيه حتى ينزل هو إلى مساواته إذ لم يقدر هو أن يرتقي إلى مساواته بإدراك النعمة وذلك لا رخصة فيه أصلاً بل هو حرام سواء كان في مقاصد الدين أو مقاصد الدنيا ولكن يعفى عنه في ذلك ما لم يعمل به إن شاء الله تعالى وتكون كراهته لذلك من نفسه كفارة له‏.‏

فهذه هي حقيقة الحسد وأحكامه‏.‏

وأما مراتبه فأربع ‏"‏ الأولى ‏"‏ أن يحب زوال النعمة عنه وإن كان ذلك لا ينتقل إليه وهذا غاية الخبث‏.‏

‏"‏ الثانية ‏"‏ أن يحب زوال النعمة إليه لرغبته في تلك النعمة مثل رغبته في دار حسنة أو امرأة جميلة أو ولاية نافذة أو سعة نالها غيره وهو يحب أن تكون له ومطلوبه تلك النعمة لا زوالها عنه ومكروهه فقد النعمة لا تنعم غيره بها ‏"‏ الثالثة ‏"‏ أن لا يشتهي عينها لنفسه بل يشتهي مثلها فإن عجز عن مثلها أحب زوالها كيلاً يظهر التفاوت بينهما‏.‏

‏"‏ الرابعة ‏"‏ أن يشتهي لنفسه مثلها فإن لم تحصل فلا يحب زوالها عنه‏.‏

وهذا الأخير هو المعفو عنه إن كان في الدنيا والمندوب إليه إن كان في الدين والثالثة فيها مذموم وغير مذموم والثانية أخف من الثالثة والأولى مذموم محض‏.‏

وتسمية الرتبة حسداً فيه تجوز وتوسع ولكنه مذموم لقوله تعالى ‏"‏ ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض ‏"‏ فتمنيه لمثل ذلك غير مذموم وأما تمنيه عين ذلك فهو مذموم‏.‏